التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
لعل أشهر الصور التي يرى فيها الناس السلطان محمد الفاتح هي صورة القائد العسكري، لكن الناس لا تعرف صورته الأخرى التي لا تقل أهمية، وهي صورة رجل الدولة.
لعلَّ أشهر الصور التي يرى فيها الناسُ السلطانَ الفاتح هي صورة القائد العسكري، والواقع أنَّ هذه الصورة صورةٌ حقيقيَّة؛ لأنَّ الفاتح كان يقود جيشه بنفسه، ويُقاتل بسيفه، وكان يُشرف على وضع الخطط العسكريَّة، والأهم من كلِّ ذلك أنَّه كان يُحكِم السيطرة على جيشه وقادته، بما في ذلك قوَّة الإنكشارية، ومن المعروف أنَّ الإنكشارية كانوا كثيري التمرُّد، وكانوا يتدخلون كثيرًا في أمور سياسة الدولة، وذلك لإدراكهم لقوَّتهم الكبرى، وأهميَّتهم العظمى، لكن هذا التمرُّد لم يحدث في وجود الفاتح، إنَّما على العكس كانوا رهن إشارته، بل زاد الفاتح من عددهم، فكانوا عند تَسَلُّم العرش ثلاثة آلاف، ثم صاروا في نهاية عصره عشرة آلاف، ومع ذلك لم يحدث منهم في حياته أيُّ خطرٍ على الدولة؛ لقوَّة إحكام قبضة الفاتح عليهم[1].
هذه هي الصورة المشهورة عن الفاتح..
لكن الناس لا تعرف صورته الأخرى، وهي لا تقلُّ أهميَّةً عن صورة القائد العسكري، وهي صورة «رجل الدولة». إنَّ هناك فارقًا ضخمًا بين قيادة الجيوش وقيادة الشعوب، وفارقًا ضخمًا كذلك بين إدارة الحرب وإدارة الدولة، وعادة لا يُجيد العسكري الذي عاش عمره في ساحات القتال، الذي كان جُلُّ تعاملاته مع الجنود والسلاح، قيادةَ الشعوب، أو إدارة دولة، ولهذا فإنَّه من المعتاد أن يُوكِل الملوكُ قيادة جيوشهم إلى عسكريِّين محترفين، بينما يقودون هم شعوبهم، ويُديرون أمور دولتهم، أمَّا أن يجمع قائدٌ بين مَلَكَات القيادة العسكريَّة، ومَلَكَات الإدارة السياسيَّة فإنَّ هذا نادرٌ جدًّا في التاريخ والواقع، ولقد كان الفاتح من هذه الشخصيَّات النادرة التي جمعت بين صفات العسكري والسياسي..
إنَّ شخصيَّةً كهذه لَشخصيَّةٌ محيِّرةٌ حقًّا! ولهذا يقول المؤرِّخ الأميركي كينيث سيتون Kenneth Setton: «إنَّ شخصيَّة الفاتح ظلَّت لغزًا لمعاصريه»[2]! فالجمع بين الملكات العسكريَّة والمهارات السياسيَّة يعني الجمع بين المتناقضات؛ أي الجمع بين الشدَّة واللين، والصلابة والمرونة، والعنف واللطف، والقدرة على الإصرار والحسم والقوَّة، مع إمكانيَّة التفاوض والوصول إلى حلٍّ وسط! إنَّها تركيبةٌ عجيبةٌ لا تتوفَّر في كثيرٍ من القادة، ولهذا يقول المؤرِّخ الأميركي تيموثي جريجوري Timothy Gregory: «إنَّ شخصيَّة وسياسات محمد الفاتح من الأمور التي تناولها المؤرِّخون باستفاضةٍ واسعة، فمِنَ الواضح أنَّ أعماله لها من التَّبعات ما تجاوز حدود زمنه، وليس المقصود فقط فتحه للقسطنطينية؛ إنَّما في المؤسَّسات التي ظلَّت تحكم البلقان لأكثر من أربعمائة سنة، ولهذا فإنَّ الفنَّان الإيطالي چنتيل بلليني Gentile Bellini عندما أراد أن يرسم السلطان محمد الفاتح رسمه في هيئة أميرٍ من أمراء النهضة»[3].
لقد حاول المؤرِّخ الألماني بابينجر أن يُؤكِّد قوَّة شخصيَّة الفاتح فقال على سبيل التعظيم لها: «إنَّ هذه الشخصيَّة القويَّة يُمكن أن تُقَارَن بشخصيَّة نابليون بونابرت»[4]. والواقع أنَّني أرى أنَّ هذه المقارنة تخفض من شأن الفاتح ولا ترفعه؛ فإنَّه -في رأيي- أفضل من نابليون بونابرت، سواءٌ في الناحية العسكريَّة، أم في الناحية السياسيَّة، وليس هذا التقويم عاطفيًّا؛ إنَّما بنيتُه على تحليل تاريخ الزعيمين، وما حدث في دولتهما بعد انتهاء عهدهما؛ فأمَّا الفاتح فآثار عهده واضحةٌ وجليَّة، لأنَّه ترك إمبراطوريَّةً قويَّةً فيها من عوامل الثبات والقوَّة ما جعلها تستمرُّ عدَّة قرونٍ بعد وفاته، بل زادت وترامت أطرافها، أمَّا الإمبراطوريَّة التي تركها نابليون فقد تحلَّلت في حياته، وقُسِّمت بين أعدائه، واضطرَّ نابليون للهرب من عاصمته باريس، حتى أمسك به الإنجليز، ونُفِي حتى مماته[5]!
أي مقارنة تلك التي بين الفاتح ونابليون!
نعم كان نابليون واحدًا من أعظم العسكريِّين والسياسيِّين في العالم، وهو في عيون الغربيِّين يُعدُّ أعظم قائدٍ عسكريٍّ منذ زمن يوليوس قيصر[6]، لكنَّ الفاتح كان أعظم أثرًا منه، كما أنَّه تفوَّق عليه بشدَّة في المجال السياسي والإداري.
كان الفاتح «رجل دولة» بحق..
ويُمكن الحديث عن صفات رجل الدولة من خلال السمات الآتية:
1. من أهمِّ صفات رجل الدولة المتميِّز امتلاكه لرؤيةٍ مستقبليَّةٍ واضحة لنفسه ولأمَّته، وهذه الصفة كانت في الواقع من أوضح صفات الفاتح وأبرزها؛ فلقد كان الفاتح يرى مستقبل الدولة العثمانيَّة كإمبراطوريَّة وليس كدولةٍ عاديَّة، وعَمِل بجدِّيَّةٍ من أجل تحقيق هذه الرؤية، فلقد كانت خطواته واضحةً جدًّا في هذا المجال، وكان يمتلك رؤيةً مستقبليَّةً للدولة العثمانيَّة بأنَّها سترث كلَّ أملاك الدولة الرومانيَّة الشرقيَّة القديمة، وسعى بجدِّيَّةٍ من أجل تحقيق هذه الرؤية، وكان يملك رؤيةً مستقبليَّةً بأنَّ جيوشه ستدخل روما فاتحة، وسعى من أجل تحقيق هذه الرؤية بكلِّ جدِّيَّة كذلك..
نعم كانت الرؤية المستقبليَّة الواضحة من أبرز سمات الفاتح رحمه الله، ولقد فعل الفاتح كلَّ ما يُمكن أن يُحقِّق هذه الرؤية، ولم يكن الأمر خاصًّا بإعداد الجيوش، أو تجهيز السلاح فقط؛ إنَّما تجاوز ذلك إلى الحرص على توضيح «هويَّة الدولة» التي يُمكن أن تُؤدِّي إلى تحقيق هذه الرؤية، وهذا من أعمق ما يُمكن أن يُقال، ولننظر إلى ما قاله المؤرِّخ البلغاري الأميركي نيكولاي أنتوڤ Nikolay Antov عن هذه النقطة: «إنَّ نشوء الرؤية الإمبراطوريَّة تحت حكم محمد الثاني (الفاتح) تطلَّب تعبيرًا جديدًا عن الهويَّة الدينيَّة، نابعًا من العلاقة الأساسيَّة بين المطالبة بنفوذ الإمبراطوريَّة والإيمان الصحيح»[7]. إنَّ المؤرِّخ البلغاري يعني أنَّ الرؤية المستقبليَّة للدولة كإمبراطوريَّة كبرى لها الحقُّ في حكم مناطق واسعة، ولها الحقُّ في قيادة العالم الإسلامي وغيره، كان يتطلَّب أن تُصبح هويَّة الدولة الدينيَّة واضحة، لأنَّ إعلان الإيمان الصحيح يُعطي الدولة الحقَّ في حروبٍ مقدَّسةٍ تُحقِّق رؤيتها البعيدة، ويربط المؤرِّخ بعد هذا الكلام العميق بين هذا التحليل وبين بناء المدارس الفقهيَّة في الدولة العثمانيَّة، والاهتمام بالعلماء، وإبراز الهويَّة الإسلاميَّة.
وأبرز ممَّا سبق يذكر العالِم الأميركي بروس تاتشر Bruce Thatcher -وهو عالمٌ متخصِّصٌ في التنمية البشريَّة بالإضافة إلى معرفة واسعة بالتاريخ العالمي- أنَّ هناك بعض الأشخاص يتميَّزون بأنَّ لديهم أهدافًا محدَّدةً غير مرنة، بمعنى أنَّهم لا يرضون أبدًا إلَّا بالتحقيق «الكامل» لهذه الأهداف، وأيُّ تحقيقٍ غير كاملٍ لأهدافهم يُعَدُّ أمرًا غير مُرْضٍ[8]، ثم يختار العالِم الأميركي مثالًا لتوضيح هذا الأمر، فيكون المثال هو محمد الفاتح! فقال عنه: «كان لمحمد الفاتح رؤيةً واضحةً غير متغيِّرة لتحقيق هدفه النهائي»[9]، ثم فصَّل بعد ذلك في بعض خطوات حياته الدالَّة على هذه الحقيقة!
2. من صفات «رجل الدولة» أيضًا القدرة على التفكير المنهجي؛ بمعنى أنَّه لا عشوائيَّة في قراراته أو أعماله، إنَّما يُفكِّر بشكلٍ منطقي، ويستطيع أن يقرأ بين السطور، ويفهم ما لا يفهمه عامَّة المعاصرين، فيتمكَّن من وضع خطواتٍ محدَّدةٍ مرتَّبةٍ بشكلٍ بديعٍ للوصول إلى الهدف النهائي، ولنأخذ مثالًا من حياة الفاتح للتأكيد على تفكيره المنهجي.
كان الفاتح يُريد تحقيق النصر على استيفين الثالث أمير البغدان، ولم تكن قوَّة الفاتح تسمح بذلك لاعتباراتٍ كثيرةٍ، فكان الحلُّ هو ضمُّ قوَّة خانات القرم المسلمين إلى القوَّة العثمانية، فعندها يُمكن أن يتحقَّق الهدف، ولكن قوَّة خانات القرم مرتبطة بقوَّة جمهوريَّة چنوة الإيطاليَّة التي تُسيطر على موانئ القرم كلِّها تقريبًا، وهي جمهوريَّةٌ متمكِّنةٌ في الجانب البحري، ولن يهزمها إلَّا أسطولٌ متمكِّنٌ على المستوى نفسه أو أعلى.
هذه هي العقدة.. فكيف يكون التفكير المنهجي؟!
التفكير المنهجي يقضي بإعداد أسطولٍ قويٍّ أوَّلًا، ثم الصدام مع جمهوريَّة چنوة ثانيًا، وبعد الانتصار عليها تُضَمُّ خانيَّة القرم ثالثًا، ثم رابعًا وأخيرًا تُحَارَب إمارة البغدان بمساعدة خانات القرم، فعندها يُمكن تحقيق النصر!
وهذا ما حدث تمامًا من خلال هذه النقاط الأربع المنهجيَّة، وانتصر على البغدانيِّين في معركة الوادي الأبيض عام 1476م.
ومثالٌ آخر لتفكير الفاتح المنهجي كان في إرغامه للبندقيَّة على توقيع معاهدة استسلام له، فالحرب مع البندقية استمرَّت ستَّة عشر عامًا، وكان كبرياء البندقية وعنادها يمنعانها من الاستسلام للدولة العثمانيَّة، فكان التفكير المنهجي هو السبيل للخروج من المشكلة. كيف كان ذلك؟!
إنَّ نظام الحكم في البندقية جمهوري، بمعنى أنَّ ممثِّلي الشعب المنتَخبين هم الذين ينتخبون رئيس الجمهوريَّة، وهم الذين يُؤثرون في قرارات الدولة، فحتى يُمكن إرغام الحكومة على الاستسلام لا بُدَّ من إرغام الشعب أوَّلًا، والشعب البندقي يهمه في المقام الأوَّل أرواحه وأمواله، فلو شعر بتهديدٍ حقيقيٍّ لهما ضَغَط على حكومته لتستسلم، وهذا التهديد الحقيقي لن يكون إلَّا بالاقتراب الشديد من مصالح الشعب، وفي عقر داره، ولن يحدث هذا الاقتراب إلَّا بوجود فرقةٍ عسكريَّةٍ احترافيَّةٍ يُمكن أن تخترق وسط أوروبا حتى تصل إلى البندقية الإيطاليَّة، ولن يكون هذا إلَّا بتوفُّر معلومات استخباراتيَّة على أعلى مستوى!
إنَّ التفكير المنهجي يقضي إِذَنْ بتوفير معلوماتٍ استخباراتيَّةٍ أوَّلًا، ثم إعداد فرقةٍ احترافيَّة يُفضل أن تكون من منطقةٍ قريبةٍ من إيطاليا ثانيًا، ثم غزو إيطاليا بالقرب من البندقية ثالثًا، ثم إحداث خسائر حقيقيَّة تمسُّ الشعب البندقي رابعًا، ثم انتظار أن يضغط الشعب على حكومته خامسًا، ثم الجلوس على طاولة المفاوضات وفرض الشروط على البنادقة سادسًا!
إنَّ هذا هو ما حدث تمامًا!
جُهِّزت المعلومات الاستخباراتيَّة، وجُهِّزت فرقة من البوسنة القريبة من إيطاليا، وغُزِي إقليم الفريولي في شرق البندقية، ثم أُحْرِقت مزارع الشعب في الفريولي، فضغط الشعب على حكومته، فكانت المعاهدة المذلَّة للبندقيَّة في 1479م!
هذا هو التفكير المنهجي عند رجل الدولة محمد الفاتح..
والتفصيل في هذه الجزئيَّة صعبٌ لأنَّها تشمل كامل حياة الفاتح رحمه الله.
3. ومن صفات رجل الدولة هدوء الأعصاب، وعدم التوتُّر، والقدرة على تحويل الأزمة إلى فرصة، وبالتالي استغلال كلِّ ظرفٍ مهما كان سيِّئًا لتحقيق نجاح للدولة.
ولنأخذ هذا المثال الرائع للدلالة على الصفة السابقة..
كان للفاتح هدفٌ واضحٌ في بداية حكمه وهو فتح القسطنطينية، ولكنَّه كان معاهِدًا لإمبراطور البيزنطيِّين، ولن يستطيع حرب الدولة البيزنطية إلَّا إذا نقض الإمبراطور هذه المعاهدة، وفي الوقت نفسه كان يُريد بعض الشهور لإعداد جيشه وسلاحه. أضف إلى هذه المعلومات أنَّ الإمبراطور البيزنطي يحتفظ بلاجئ من العائلة العثمانيَّة اسمه أورخَان يُمكن له أن يُطلقه لإحداث حربٍ أهليَّةٍ في الدولة العثمانيَّة، خاصَّةً مع تَسَلُّم الشابِّ الصغير محمد الفاتح للحكم.
ماذا فعل الفاتح في هذا الموقف؟!
حاول الفاتح أن يبدأ حكمه بهدوءٍ لا يستفزُّ الأعداء الكُثر حول دولته، فعرض على الإمبراطور البيزنطي أن يدفع إليه ثلاثمائة ألف آقجة سنويًّا لرعاية شأن أورخَان اللاجئ عند الدولة البيزنطيَّة مع ضمان عدم إطلاقه في هذا الوقت المبكر من تَسَلُّم الحكم، وفي الوقت نفسه أراد الفاتح بهذا العمل أن يتفرَّغ للتمرُّد الذي حدث في قرمان عند تَسَلُّمه الحكم.
ولنترك المؤرِّخ الإنجليزي مايكل أنجولد Michael Angold يُصوِّر هدوء الفاتح، وحسن استغلاله للظروف، وكيف يُمكن تحويل الأزمة إلى فرصة!
يقول مايكل أنجولد: «بسبب رغبة محمد الثاني في الوصول إلى حلول وسط وتقديم بعض التنازلات في شهور حكمه المبكرة، فإنَّ ذلك دعم الانطباع السابق عنه، الذي نتج عن فترة حكمه الأولى منذ خمس أو ست سنوات (قبل وفاة أبيه مراد الثاني)، من أنَّه يفتقد القدرة والثقة، ومع ذلك فكما لاحظ المؤرِّخ البيزنطي دوكاس Doukas: كان محمد الثاني ذئبًا في ثياب الحملان! شجعت عدم ثقة النفس الظاهرية لمحمد الثاني بعض الأتباع في الأناضول للتمرُّد عليه، وأعطت هذه المشاكل الداخليَّة الفرصة للإمبراطور البيزنطي لممارسة بعض الوسائل الدبلوماسيَّة «الرخيصة» والمفاجِئة لمحمد الثاني، فأرسل إليه سفارةً تُهدِّده تهديدًا خفيًّا بأنَّه سيُطلق سراح أورخَان إن لم يُضاعف محمد الفاتح الضريبة السنويَّة حالًا! لقد كان طلبًا أثار حفيظة «صديق البيزنطيِّين» خليل باشا (وكان صدرًا أعظم آنذاك)، الذي أدرك أنَّ الإمبراطور البيزنطي قام بحساباتٍ خاطئةٍ تمامًا، حيث صار الحفاظ على السلام أمرًا مستحيلًا تقريبًا. في هذا الوقت كَظَم محمد الثاني غيظه، وأبلغ السفارة البيزنطيَّة أنَّه يودُّ مناقشة هذه الرسالة عند عودته من الأناضول إلى أدرنة (العاصمة آنذاك)، ومع ذلك كان أوَّل أعماله عند عودته إلى أدرنة هو إلغاء المبلغ الذي كان قد قرَّر دفعه قبل ذلك إلى الإمبراطور البيزنطي، وإعطاء الأوامر ببناء قلعة روملي حصار على الجانب الأوروبي للبوسفور، وكان بناء هذه القلعة يعني للجميع أنَّه يُجهِّز لحصار القسطنطينية»[10]!
انتهى كلام مايكل أنجولد!
لاحظنا في الفقرة السابقة كيف أظهر المؤرِّخ الإنجليزي انبهاره بهدوء أعصاب محمد الفاتح، وعدم ظهور الغضب عليه مع أنَّ طلب البيزنطيِّين أثار صديقهم خليل باشا، وكيف أعطى الفاتح نفسه فرصةً للتفكير وإعادة الحسابات، فطلب الردَّ عند عودته لأدرنة، ثم كيف استغلَّ الفرصة وعَدَّ طلب الإمبراطور البيزنطي نقضًا للمعاهدة ممَّا أعطاه صلاحيَّات بناء القلعة، ومع ذلك فهو لم يُعلن بشكلٍ صريحٍ أنَّ القلعة بُنيت لحصار القسطنطينية، وذلك حتى يُعطي نفسه فرصةً للتراجع إن تطلَّب الأمر ذلك!
هذا الهدوء في التفكير وحسن استغلال المواقف العابرة، هو من أبرز صفات رجل الدولة، خاصَّةً إذا كانت لديه القدرة على ترك انطباعٍ مخالفٍ لطبيعته عند الناس، في سبيل نجاحٍ مستقبلي، فكثيرٌ من القادة لا يطيق ذلك، وتبدو عليه العصبيَّة التي يُمكن أن تُضيِّع بعض الفرص، وما أدقَّ الملاحظة التي لاحظها المؤرِّخ البيزنطي دوكاس: «كان محمد الثاني ذئبًا في ثياب الحملان»! هذا في الواقع ليس ذمًّا في الفاتح إنَّما هو مديحٌ عميق، وإبرازٌ لمـَلَكَاتٍ سياسيَّةٍ باهرة، خاصَّةً أنَّها تصف رجلًا عسكريًّا يجب أن يكون مظهره قويًّا، وهذا ما يُؤكِّد صعوبة الجمع بين قدرات الحرب والملكات السياسيَّة، وأنَّ هذا الجمع لا يفعله إلَّا قليلٌ من الزعماء.
4. من صفات رجل الدولة أيضًا أنَّه لا يُسْتَدرج إلى خطواتٍ مفتوحةٍ له، لعلمه أنَّ هذا الاستدراج قد يُضيِع على الدولة نجاحات تحقَّقت، مع أنَّ إغراءات الاستدراج قد تكون كبيرةً للغاية، والأمثلة على ذلك كثيرةٌ جدًّا في حياة الفاتح رحمه الله، فنجده على سبيل المثال يُحقِّق النصر على دراكولا الثالث أمير الإفلاق في عام 1462م، فيهرب دراكولا إلى الحدود المجريَّة، ومع رغبة الفاتح الحثيثة في الإمساك بدراكولا لكونه ارتكب عددًا كبيرًا من المذابح ضدَّ المسلمين إلَّا أنَّه يكبح هذه الرغبة التي قد تُفقده نتائج النصر، ويعود أدراجه إلى إسطنبول تاركًا رادو العادل في الإفلاق، كذلك موقفه مع السلطان أوزون حسن؛ فقد انتصر عليه انتصارًا ساحقًا في عام 1473م، ومع أنَّ الطريق كان مفتوحًا لإيران فإنَّ الفاتح لم يُسْتَدرج للوقوع في هذا المستنقع؛ ليس فقط لتجنيب قوَّاته معارك خاسرة، ولكنَّه أيضًا لتجنُّب الدخول في معارك مع المسلمين تُشغله عن فتوحات أوروبا، مع أنَّ اعتداء المسلمين الإيرانيين عليه كان يُعطيه التسويغ الشرعي والمنطقي لاحتلال إيران، ولكن القياسات العاقلة للفاتح رحمه الله دفعته إلى هذا السلوك المتَّزن، ومرَّ بنا أيضًا موقفه في البغدان عام 1476م عندما حقَّق النصر على استيفين الثالث في معركة الوادي الأبيض، فقد هرب استيفين الثالث إلى بولندا، وصارت البغدان مفتوحةً بالكامل للعثمانيِّين، ومع ذلك فإنَّ الفاتح اكتفى بنصره الكبير وانسحب عائدًا منها؛ لأنَّه كانت هناك تهديداتٌ مجريَّةٌ لحدوده في أماكن أخرى، فاكتفى بالنجاح غير الكامل في البغدان بدلًا من الاستدراج إلى تحقيق نجاحٍ كاملٍ قد يُفقده كلَّ النتائج الإيجابيَّة.
5. من صفات رجل الدولة المهمَّة جدًّا قدرته على الموازنة بين المصالح المختلفة، وكذلك قدرته على الموازنة بين المفاسد المتعدِّدة، ولا أعني هنا قدرته على معرفة المصلحة من المفسدة، فإنَّ هذا متحقَّقٌ -على صعوبته- لكثيرٍ من الناس، ولكن الأصعب حقًّا هو التمييز بين المصالح نفسها فنعرف أيَّ المصالح أعلى فنختارها مع التضحية بالمصلحة الأقل، وكذلك مع المفاسد، فنُدرك أيَّ المفاسد أعلى فنتجنَّبه، وأيَّ المفاسد أقل فيُمكن قبوله. إنَّ كثيرًا من الزعماء لا يفقه هذا الجانب، ومِنْ ثَمَّ فهو يُحاول تحقيق «كلِّ» المصالح، واجتناب «كلِّ» المفاسد، وهذا مستحيلٌ في واقع الحياة.
كان الفاتح رحمه الله قادرًا في كثيرٍ من الأحيان على إدراك أنَّ دولته تتعرَّض للخسارة، ومِنْ ثَمَّ كان يعرف كيف يُوقف هذه الخسارة، وليس بالضرورة أن يقلبها إلى مكسب، ولا يفعل مثلما يفعل المقامرون عندما يُحاولون تعويض خسائرهم فيخسرون أكثر، وهكذا قد يفقدون كلَّ أملاكهم.
السياسي ليس مقامرًا؛ إنَّما هو رجلٌ حريصٌ ذكي، وهو منطقيٌّ جدًّا في توقُّعاته وأحلامه..
مرَّ بنا في قصَّة الفاتح الكثير من المواقف التي تدعم هذه «المنطقيَّة» عنده.
في حصار شقودرة 1474م، وبعد ثلاثة شهور من المصابرة حول الحصن، أدرك الفاتح أنَّ البقاء أكثر من هذا في حصار المدينة لن يُحقِّق نفعًا، فعلم متى ينبغي التوقُّف عن المحاولة، وسحب جنوده من هناك.
وكرَّر الأمر نفسه عام 1478م مع المدينة نفسها، وكان يُحاصرها بنفسه في هذه المرَّة، ومع ذلك، وبعد عديدٍ من المحاولات، أدرك أنَّ بقاءه مدَّةً أطول لن يُسبِّب له إلَّا الخسارة، فانسحب هو وجنوده مع ترك حاميةٍ صغيرةٍ حول المدينة.
وفي حصار رودس عام 1480م، وصلته الأنباء أنَّ خسارته كبيرة في الأرواح والأموال، فلم يُعاند؛ إنَّما أرسل أوامره بسحب الجنود، وتأجيل العمليَّة برمَّتها إلى موعدٍ لاحق..
هذه الانسحابات من الممكن أن تُؤثِّر سلبًا في هيبة الدولة وسمعتها، لكن الاستمرار في العمل مع الخسارة الأفدح سيُسبِّب ضررًا أكبر للدولة، فكانت الحكمة أن تعلم متى ينبغي أن تتوقَّف عن المحاولة، وتعلم أنَّ خسارة هيبة الدولة في موقفٍ معيَّنٍ ستكون محدودة، بينما خسارة هيبة الدولة في موقفٍ آخر ستكون أفدح وأشق، وهنا يختار الوضع السيِّء لتجنُّب الوضع الأسوأ، وهذه موازناتٌ تحتاج إلى طرازٍ خاصٍّ من الرجال؛ فليس كلُّ الناس يقبل مثل هذه التنازلات المنطقيَّة.
ما الذي أدَّى إلى هلكة نابليون وإمبراطوريَّته؟!
إنَّ السبب هو ما ذكره المؤرِّخ الإنجليزي أندرو روبرتس Andrew Roberts في شرحه لسيرة نابليون بونابرت حين قال: «كان نابليون يُريد أن يكسب في أيِّ شيءٍ يُحاول فيه»[11]!
هذا الطموح غير المكبوح أدَّى إلى فشله في التوقُّف عندما كان ينبغي التوقُّف، ولهذا دخل روسيا فاتحًا بأربعمائة ألف مقاتل، ولم يخرج منها إلَّا بأربعين ألف مقاتلٍ فقط[12]!
فأيُّ هلكةٍ أعظم من هذه؟!
وما الذي أدَّى إلى هلكة هتلر وإمبراطوريَّته؟!
يقول المؤرِّخ الإنجليزي ريتشارد أوڤيري Richard Overy: «انفصلت قيادة هتلر بقوَّة عن الواقعيَّة عندما انقلبت الحرب ضدَّ ألمانيا، وصارت سياسات الدفاع العسكري معاقة بسبب قراراته البطيئة، وكان يأمر قادته بالتمسُّك بأماكن لا يُمكن الدِّفاع عنها، وعلى الرغم من كلِّ الخسائر ظلَّ موقنًا أنَّ النصر لن يأتي إلَّا تحت قيادته هو»[13]!
لم يكن هتلر قادرًا على التوقُّف عندما كان ينبغي التوقُّف، ولم يكن عنده الرغبة في تقبُّل خسارةٍ أقلَّ منعًا لحدوث خسارةٍ أكبر، فكانت النتيجة أن قُسِّمت ألمانيا، ودُمِّرت، وفقدت من جيشها العسكري -حسب التقديرات الدقيقة للمؤرِّخ العسكري الألماني رودير أوڤرمانس Rüdiger Overmans- أكثر من خمسة ملايين جندي[14]! وهو رقمٌ تتوه العقول في تصوُّره، ولكن هكذا تفعل القيادة التي لا تعرف فقه الموازنات.
6. جانبٌ آخر مهمٌّ للغاية في صفات «رجل الدولة»، هو اهتمامه «بالقانون»؛ فرجل الدولة الحكيم لا يُريد لدولته في زمانه، أو بعد ذلك في المستقبل، أن تسير بشكلٍ عشوائيٍّ حسب أهواء كلِّ قائد، ولن يضبط هذا الأمر إلَّا القانون الدقيق المحكم، ولقد كان لمحمد الفاتح في هذا الجانب باعٌ واسع..
لقد كان محمد الفاتح هو أوَّل من أمر بكتابة قانونٍ واضحٍ ومنظَّمٍ للدولة العثمانيَّة[15]، وبرز لنا اهتمامه بتنظيم الأمور القانونيَّة في دولته، بحيث يُمكن توفير التناسق الكامل في إدارتها، فلا يُدار قطاعٌ فيها بقانونٍ ما، ويُدار قطاعٌ آخر بقانونٍ مختلف، وفي الوقت نفسه يضمن الفاتح بهذا القانون أن يسير أولاده وحفدته ومَنْ يقود الدولة بعد ذلك على الطريق نفسه، فتتحقَّق غايات الدولة ولا تتشتَّت، ومن العجيب أن نعرف أنَّ هذا القانون الذي أمر الفاتح بصياغته ظلَّ معمولًا به في الدولة العثمانيَّة -مع إضافات يسيرة- إلى عام 1839م[16]! أي ما يقرب من أربعة قرونٍ بعد زمن الفاتح!
وبشكلٍ عامٍّ يُمكن القول: إنَّ هذا القانون كان مكوَّنًا من ثلاثة أقسامٍ رئيسة: الأوَّل منها يتحدَّث عن صلاحيَّات رجال الدولة، والثاني يُناقش عادات الدولة واحتفالاتها، والثالث يهتمُّ بالعقوبات وكذلك بموارد الدولة[17]، وكان هذا القانون مبنيًّا على قواعد الشريعة الإسلاميَّة، وما جُمِع من قوانين سابقة في الدول: العباسيَّة، والإلخانيَّة، والسلجوقيَّة، والعثمانيَّة[18]، ومع اهتمام الفاتح بالحفاظ على هويَّة الدولة الإسلاميَّة، إلَّا أنَّ فكره المنفتح لم يمنعه من الاستفادة من قوانين الدول النصرانية التي فتحها طالما أنَّها لا تتعارض مع الشريعة، ولقد ذكر المؤرِّخ النمساوي والتر دوستال Walter Dostal أنَّ السلطان محمدًا الثاني لم يتردَّد عندما فتح بعض المقاطعات الصربيَّة المشتملة على مناجم كثيرة في إقرار قوانين الجمارك والمعاملات الخاصَّة بهذه المناجم، وفَعَلَ الشيء نفسه مع قوانين الريِّ والزراعة عندما ضمَّ قونية عاصمة إقليم قرمان إلى دولته[19].
إن كتب التاريخ والقانون حوت العديد من الأمثلة الرائعة لقوانين الفاتح وطرق تطبيقها في زمانه، وكذلك في الأزمان التي تلت.
وما أروع أن نختم هذه الجزئيَّة بذكر أنَّ مرونة الفاتح جعلته يفتح المجال لمن يأتي من بعده أن يُعدِّل القانون وفق مصلحة الدولة حسب متغيِّرات الزمان والمكان، فنجده يقول في هذا القانون: «نظم هذا القدر من أحوال السلطنة، ولْيَسْعَ أولادي الكرام الذين يخلفون في إصلاحها»[20]!
7. من صفات رجل الدولة المهمَّة أيضًا اهتمامه بالجوانب الإداريَّة لدولته، واحترام الصلاحيَّات المعطاة لكلِّ فردٍ من أفراد الحكومة، والفاتح هو الذي رتَّب الحكومة العثمانيَّة، وسمَّاها بالباب العالي، وجعل لها أربعة أركان، وهي الصدر الأعظم، وقاضي العسكر، والدفتردار؛ أي وزير الماليَّة، والنيشانجي؛ أي كاتب سرِّ السلطان[21]، وجعل الفاتح لكلِّ واحدٍ من هذه الأركان اختصاصات محدَّدة معروفة، ولم يكن يسمح لأحدٍ بالتعدِّي على اختصاصات الغير. وكان الفاتح شخصيًّا يحترم هذه الصلاحيَّات ويُقدِّرها، ولقد مرَّ بنا إقراره للصلح الذي أجراه صدره الأعظم محمود باشا مع إمبراطور طرابزون، مع أنَّه لم يكن راضيًا عنه، وذلك حتى لا يكسر عهدًا أعطاه رجلٌ من رجال الدولة العثمانيَّة، أو يكسر هيبته أمام رجال الدولة.
هذه الصفات الإدارية للفاتح كانت لافتة لنظر المؤرخين الذين تعمَّقوا في دراسة سيرته، فعلى سبيل المثال يقول المؤرخ الإنجليزي اللورد كينروس Lord Kinross: «إن السلطان الشاب الذي امتلك موهبة الإدارة من خلال تجاربه السابقة، وتمتع بسعة الأفق من خلال الاطلاع على المؤلفات التاريخية، وتميز بالقدرة على الإنجاز، امتلك أيضًا مقومات الغازي العالمي مثل الإسكندر الأكبر والقياصرة العظام»[22]، وتقول المؤرخة الأميركية ماري باتريك Mary Patrick: «كان الفاتح يُظهر حذقًا كبيرًا، وإدارة طيبة في تسيير مقدرات البلاد، وكان جيشه مدرَّبًا ومجهَّزًا أحسن تجهيز، وهو فوق هذا كان يفكر في مصالح شعبه أكثر مما كان يفكر أي سلطان آخر، فقد بنى المساجد، والمستشفيات، والكليات الإسلامية»[23].
8. ومن صفات رجل الدولة كذلك أنَّه يستفيد من كلِّ الطاقات الموجودة في دولته على الرغم من اختلاف أديانهم وأعراقهم، إنَّ الفاتح رحمه الله كان يُعطي مراكز الصدر الأعظم وقادة الدولة إلى أفرادٍ مسلمين من أصولٍ غير تركيَّة، ولكنَّه ذهب إلى أبعد من ذلك؛ حيث أعطى بعض المناصب والولايات إلى غير مسلمين أصلًا، فقد رفع ثمانيةً من الأطباء اليهود إلى درجة باشا، بل وصل الطبيب اليهودي يعقوب إلى درجة وزير الماليَّة[24]، وكان الفاتح مهتمًّا بتوطين اليهود في عاصمته إسطنبول لكونهم متمكِّنين في التجارة والأعمال الحرَّة، وقد راسل رئيس جمهوريَّة البندقية طالبًا منه إعادة يهود البندقية الذين خرجوا من إسطنبول عند فتحها إذا رغبوا في العودة[25]، بل فعل أكثر من ذلك؛ إذ طلب من حاخام مدينة أدرنة، وهو إسحاق زارفاتي Isaac Tzarfati، أن يُراسل يهود أوروبا، وخاصَّةً وسط أوروبا، ليدعوهم إلى القدوم والحياة في الدولة العثمانيَّة[26]، وقد نقل المؤرِّخ الأميركي ستانفورد شو Stanford Shaw نسختين من هذه الخطابات التي أرسلها زارفاتي، وهي خطاباتٌ مفعمةٌ بالعاطفة تجاه يهود أوروبا المعذَّبين من قِبَل الحكومات الغربيَّة، وفيها دعوةٌ صريحةٌ للقدوم والحياة في أمانٍ في الدولة العثمانيَّة، وسوف أنقل لكم هنا بعض الفقرات من هذه الخطابات، ومن أراد قراءة الخطابات كاملةً فليَعُد إلى موسوعة ستانفورد شو عن يهود الدولة العثمانيَّة.. يقول زارفاتي في رسائله: «روى لي الحاخام زالمان Zalman وصديقه الحاخام ديڤيد كوهين David Cohen، كلَّ المحن التي يتعرَّض لها إخواننا وأبناء إسرائيل الذين يعيشون في ألمانيا، وذكروا لي التعذيب الأشد من الموت، والشهداء، والنفي...»، ثم ذكر الحاخام ألوانًا من المعاناة، ثم ذكر كيف رأى هذان الحاخامان الفرق في المعاملة في الدولة العثمانيَّة عندما جاءا هاربين إلى زارفاتي... يقول زارفاتي: «لقد رأينا هنا السلام، وراحة البال، والخير الوفير...»، ثم يقول: «لو علم يهود ألمانيا بمعشار الرحمات التي أنزلها الربُّ على اليهود الذين يعيشون في أرض الدولة العثمانيَّة فإنَّهم لن يستريحوا حتى يلحقوا بهم هنا»[27]!
هذه شهاداتٌ تُكتب بماء الذهب في حقِّ هذا السلطان العظيم محمد الفاتح، وفي حقِّ الدولة العثمانيَّة بشكلٍ عامٍّ، بل في حقِّ أمَّة الإسلام التي كانت مأوًى للمعذَّبين في الأرض ولو كانوا من غير ملَّتهم ولا أعراقهم..
يبقى أن نذكر في هذه النقطة أنَّ الفاتح رحمه الله لم يكن يتعامل مع هذه الملفَّات الشائكة بطريقةٍ عشوائيَّة؛ إنَّما كان يعلم أنَّ التعامل مع هذه الطوائف ينبغي أن يكون مدعَّمًا بالعلم الصحيح، لأنَّ الاختلافات العقائديَّة الكبيرة بين هذه الديانات والإسلام يُمكن أن تُنتج مواقف ذات نتائج سلبيَّة على الدولة، وهذا ما دفع الفاتح إلى دراسة هذه الأديان بجدِّيَّة، حتى إنَّه درس النصرانية بمساعدة البطريرك چيناديوس Gennadius، وكان يُواظب على حضور محاضراتٍ خاصَّةٍ بهذا الشأن[28]!
حقًّا.. ما أروع ما كان يفعله هذا الأمير العظيم!
9. ومن صفات رجل الدولة المهمَّة؛ القدرة على التفاوض، وتحقيق أفضل المكاسب من خلال الحوار، وهذه ملكاتٌ خاصَّة، ومواهب لا يملكها عامَّة الناس، ولكنَّها كانت بارزةً واضحةً عند الفاتح رحمه الله، وهذا أدَّى إلى نجاحه في عقد اتفاقيَّاتٍ في منتهى الأهميَّة.
يتميَّز المفاوِض الناجح بهدوئه حتى مع تعرُّضه للضغط العصبي، وقدرته على تحكيم عقله في الأمور أكثر من عاطفته، ويتميَّز بأنَّه يعتقد أنَّ معظم الأشياء قابلةٌ للتفاوض؛ بمعنى أنَّه يُمكن أن يُقدِّم تنازلاتٍ إذا لزم الأمر، ولكنَّه يعلم كذلك ما الذي لا يُمكن أن يتنازل عنه أبدًا، ويتميَّز المفاوض الناجح أيضًا بذكاءٍ حاد، ودهاءٍ كبير، وقدرةٍ على قراءة أفكار الغير، وحسن توقُّعٍ للأمور، كما يملك قدراتٍ كبيرةً في جمع المعلومات ممَّا يُعطيه إمكاناتٍ واسعةً أثناء عمليَّة التفاوض..
كلُّ هذه الصفات وغيرها كانت متوفِّرةً في السلطان الفاتح رحمه الله، وهناك عشرات المواقف في حياته تُؤكِّد توفُّر هذه السمات المهمَّة فيه، ويكفي أن نُراجع معاهدة البندقية لنُدرك ما نقصده من معانٍ.
كان الفاتح في معاهدة البندقية يُدرك عن يقين مواطنَ القوَّة والضعف عند الفريقين. كان يعلم أنَّه صار في موضع قوَّةٍ بعد النجاحات الأخيرة في ألبانيا واليونان والفريولي، ولكنَّه كان يُدرك أنَّ البندقية كذلك تمتلك عدَّة عناصر من القوَّة يُمكن أن تُصعِّب عليه الأمور؛ فهي الدولة القادرة صاحبة الأسطول القوي، والأموال الغزيرة، والعلاقات العامَّة الكثيرة، كما أنَّها ما زالت تُسيطر على عدَّة موانئ مهمَّة على السواحل العثمانيَّة، ومن هنا جاءت عمليَّة التفاوض منطقيَّة وعمليَّة، واستطاع الفاتح تحقيق عدَّة مكاسب مهمَّة لدولته، لكنَّه في الوقت نفسه أعطى بعض المكاسب للبندقيَّة ممَّا جعلها قادرةً على إتمام عمليَّة التفاوض، بل على التمسُّك بالاتفاقيَّة على الرغم من الضغوط الشديدة التي فرضها البابا وزعماء الغرب الصليبي على الجمهوريَّة.
وما قلناه عن معاهدة البندقية يُمكن قوله على اتفاقيَّات ومعاهدات كثيرة في حياة الفاتح، بل إنَّنا نجد أحيانًا بعض المعاهدات التي تتميَّز بسعة صدرٍ عجيبة؛ حيث إنَّنا نتوقَّع أنَّ الفاتح لن يقبل أبدًا التفاوض مع مثل هذه الشخصيَّات، ولكنَّه كان يفعل، وذلك مثلما قَبِل التفاوض مع إسكندر بك المتمرِّد الألباني الشهير على الرغم من تمرُّده عليه وعلى أبيه السلطان مراد الثاني، ومع ذلك فقد تفاوض معه الفاتح، ووصل معه إلى اتفاقيَّة هدنة عام 1463م، ومثل تفاوضه مع استيفين الثالث أمير البغدان على الرغم من التمرُّد المستمر، والحروب الدائمة بينهما، ولكنَّه قَبِل التفاوض معه في عام 1479م، فهذه قدراتٌ نفسيَّةٌ وعقليَّةٌ لا يستطيعها كثيرٌ من القادة.
10. يُضاف إلى كلِّ ما سبق موهبةٌ خاصَّةٌ جدًّا تُعدُّ من أهمِّ المواهب التي ينبغي لرجل الدولة أن يتمتَّع بها، وهي موهبة «قوَّة الشخصيَّة المؤثِّرة»، وهي ما يُعرف في الدراسات الغربيَّة بالكاريزما، وأصحاب هذه الشخصيَّات يُمكنهم التأثير على غيرهم بقوَّة من خلال خطبهم، أو كلماتهم المختصرة، أو حتى من خلال بعض الإشارات والتلميحات. إنَّها موهبةٌ يمنحها الله لبعض عباده، ومع أنَّه يُمكن لهذه الموهبة أن تُصْقَل وتُنمَّى فإنَّها لا يُمكن أن تُخْتَلق من فراغ، بمعنى أنَّها مَلَكَة فطريَّة عند بعض الناس، بينما لا يمتلكها آخرون البتَّة.
كان الفاتح رحمه الله من أكثر الناس تميُّزا في هذا المجال..
كانت شخصيَّته القويَّة لافتةً للنظر حقًّا، ومِنْ ثَمَّ استطاع أن يقود رجال دولته، سواء العسكريُّون منهم أم المدنيون، واستطاع أن يُؤثِّر في جنوده وشعبه، وتمكَّن من فرض هيبته على كافَّة الملوك والزعماء، الأعداء منهم والأصدقاء..
يقول الباحث القبرصي في جامعة هارفارد الأميركيَّة ثيوهاريس ستاڤريديس Theoharis Stavrides والمتخصِّص في التاريخ العثماني: «أثَّرت شخصيَّة محمد الثاني القويَّة، وسياساته الرامية في خلق إمبراطوريَّة عظيمة مستقرَّة ونظاميَّة وفاتحة للعالم، على كلِّ أوجه الحياة في هذه الفترة»[29]!
هذه الشخصيَّة القويَّة المؤثِّرة كانت بارزةً تقريبًا لكلِّ الباحثين الذين درسوا حياة الفاتح رحمه الله..
يقول المؤرِّخ الكندي أنتوني دي إيليا Anthony D'Elia: «كان محمد الثاني حاكمًا ذا شخصيَّةٍ كاريزميَّة، وكان شديد الإعجاب بالنهضة الإيطاليَّة»[30].
ويقول المؤرِّخ الأميركي چاستين مكارثي Justin McCarthy: «ظلَّ السلطان محمد الثاني محافظًا على سيطرته على الدوشرمة والإنكشاريَّة من خلال شخصيَّته القويَّة، وإحساسه السياسي الجيِّد»[31].
هذه كلُّها شهاداتٌ تُثبت قوَّة شخصيَّة محمد الفاتح، وقدرته على التأثير على غيره، والعجيب أنَّ هذه الصفات كانت فيه منذ أيَّام حكمه الأولى؛ أي وهو في مقتبل عمره، ولم يكن قد اكتسب الخبرة الكافية بعد، ومع ذلك فإنَّه كان قادرًا على التأثير على الجموع بشكلٍ لافتٍ للنظر، ولقد أطلق الفاتح على نفسه بعد فتح القسطنطينية -كما مرَّ بنا- لقب «قيصر الروم»، وهو يعني أنَّ طموحاته لن تقف عند حدود المدينة العريقة؛ إنَّما ستمتدُّ لتشمل كلَّ أملاك الإمبراطوريَّة الرومانيَّة القديمة، وهذا يُعَدُّ أمرًا خياليًّا عند الكثيرين، ولقد علَّق المؤرِّخ چاستين مكارثي على هذا الإعلان بجملةٍ غريبة؛ إذ قال: «لم يضحك أحدٌ عندما سمَّى محمد الثاني نفسه القيصر»[32]!
لقد كان من الطبيعي أن يضحك السامعون عند سماع مثل هذا الطموح، وخاصَّةً أنَّه يصدر من شابٍّ صغيرٍ في الحادية والعشرين من عمره، ويرأس دولةً محدودةً مهما كانت كبيرة، ثم إنَّه يتحدَّث عن القياصرة الكبار الذين اعتادوا أن يحكموا العالم كلَّه، ومع ذلك لم يضحك أحدٌ كما يقول مكارثي! والسبب في عدم ضحكهم هو قوَّة شخصيَّة الفاتح رحمه الله، وجديَّته في كلامه، وشدَّة تأثيره على السامعين. إنَّ المؤرِّخ التركي مراد تشيزاكا Murat Çizakça يرصد ردود الفعل لهذا الكلام العجيب فيقول: «تقبَّل شعب القسطنطينية إعلان محمد الثاني نفسه قيصر الروم، بل أطلقوا عليه «السلطان الإمبراطور» «Sultan Basileus»، ليجمعوا له الصفتين؛ الإسلاميَّة والإمبراطوريَّة، في لقبٍ واحد. لم يَعُدّ الفاتح -والكلام للمؤرِّخ التركي- ديانته الإسلاميَّة عائقًا له في حمل لقب قيصر الروم، وعندما ذكر له بعضهم أنَّ هذه ازدواجيَّة واضحة، أجاب قائلًا: «لقد غيَّر الرومان ديانتهم قبل ذلك، وتركوا تعدُّد الآلهة إلى عقيدة التثليث النصرانية، إنَّهم في الواقع استبدلوا آلهةً كثيرةً بثلاثة. الآن اعتنقت الإمبراطوريةُ الإسلامَ، وسيستبدلون التثليث بديانة التوحيد الحقَّة. هذا هو التطوُّر كما ينبغي أن يكون، وإنَّه لمنطقيٌّ تمامًا». انتهى كلام الفاتح، ويكمل المؤرِّخ التركي مراد تشيزاكا شرحه لأثر لقب قيصر الروم في العالم فيقول: «وليس فقط اليونانيُّون، والإيطاليُّون، والنمساويُّون، الذين كانوا يرون الفاتح قيصر الروم، بل كان العرب والفرس يَعُدُّون الإمبراطوريَّة العثمانيَّة الجديدة امتدادًا للإمبراطوريَّة الرومانيَّة القديمة. لقد كان الأتراك بالنسبة إليهم هم روم العصر الحديث. حتى في سومطرة وإندونيسيا كان الفاتح معروفًا براچا الروم Roman Raja»[33]!
انظر إلى هذا التأثير العجيب!
اليونانيُّون في القسطنطينية يُطلقون بسهولة لقب Basileus على الفاتح، وكلمة باسلياس كلمةٌ يونانيَّةٌ قديمةٌ تعني الإمبراطور، وكان الأباطرة البيزنطيون يصفون أنفسهم بهذا اللقب[34]، فهذا تسليمٌ يونانيٌّ سريعٌ للفاتح بما أعلن!
والعرب والفرس يُسمُّونه ملك الروم[35][36][37].
وأهل إندونيسيا وشرق آسيا يُعطونه لقب راچا Raja وهو لقبٌ لا يعني فقط الإمبراطور؛ إنَّما يعني الإمبراطور الذي يجمع بين الصفتين الدينيَّة والدنيويَّة، فهو يعني الحاكم للدولة وفي الوقت نفسه الذي اختاره الربُّ لقيادة الأمَّة[38].
بل خاطبه الفيلسوف البيزنطي المعاصر له چورچ طرابيزونتيوس George Trapezuntios بقوله: «لا يشكُّ أحدٌ في أنَّك إمبراطور الرومان. إنَّ الذي يحكم عاصمة الإمبراطوريَّة هو الإمبراطور، والقسطنطينية هي عاصمة الإمبراطوريَّة الرومانيَّة»[39]!
إنَّ تأثير الفاتح لم يصل إلى شعب اليونان فقط، بل وصل إلى مفكِّريه وفلاسفته، وهذا من أبلغ مظاهر التأثير..
ثم إنَّ هناك جانبًا جميلًا للغاية في هذه النقطة أحبُّ أن أقف عليه، وهو أنَّ بعض الزعماء يملك هذه الشخصيَّة الكاريزميَّة، ويستطيع التأثير فيمن حوله بقوَّة، ولكنَّه لا يتمتَّع بالحبِّ من شعبه، فخوفهم منه هو الذي يدفعهم إلى طاعته، أمَّا حبهم له فمفقود، وقليل من الزعماء هو الذي يجمع بين رهبة الشعب منه وحبهم له، وهذا ما كان يتمتَّع به الفاتح رحمه الله..
لقد لفت هذا الجانب أنظار المفكرين والمؤرِّخين..
لقد كتبت المؤلِّفة الأميركية، والمهتمَّة بالتاريخ، كيرستين داوني Kirstin Downey مؤلَّفًا مهمًّا عن الملكة الإسبانيَّة الشهيرة إيزابيلا، وكانت هذه الملكة معاصرة للفاتح رحمه الله، فلننظر إلى ما كتبته المؤلِّفة الأميركيَّة وهي تُعلِّق على هذه المرحلة التاريخيَّة التي جمعت بين إيزابيلا والفاتح.. تقول كيرستين: «اختفت شهرة مُلْكِ إيزابيلا بسبب وجود رجلٍ لم تلَتَقِ به إيزابيلا قط، وهو الرجل الذي أرعب وسط وجنوب أوروبا. هذا الرجل هو السلطان القوي والثري محمد الثاني، والمعروف بمحمد الفاتح. لقد كانت شخصيَّته غامضة -والكلام للمؤلِّفة الأميركيَّة- فهو محبوبٌ وموقَّرٌ عند المسلمين، ومعروفٌ بكونه محاربًا قويًّا وعظيمًا، وكان اليهود يُكنُّون له الإعجاب لتسامحه الديني، ولكونه سمح لهم بالعيش في سلامٍ في مملكته، ومع ذلك كان الجميع يخاف منه، فهو مقاتلٌ شرسٌ كرَّس حياته لتوسيع الإمبراطوريَّة العثمانيَّة عن طريق ابتلاع أوروبا»[40]!
وضح لنا في كلام المؤلِّفة الأميركيَّة ما نُريد؛ وهو جَمْع الفاتح رحمه الله بين حبِّ الناس له، وخوفهم منه، وهذه قوَّة تأثيرٍ كبيرةٍ تحتاج إلى موهبةٍ فذَّة، وقدراتٍ غير طبيعيَّة..
ولم يكن هذا الحبُّ والتقدير من ناحية الشعب فقط؛ إنَّما كان من ناحية الجنود العسكريِّين، وهذا في الواقع أصعب؛ لأنَّ طبيعة الجنود تكون قاسيةً وغليظةً تبعًا لطبيعة حياتهم وممارساتهم، ولذلك فعواطف الحبِّ لا تكون بارزةً عندهم لقادتهم، كما أنَّهم قد يتفلَّتون بشدَّة من القيادة عند إحساسهم بقوَّتهم، ومن هنا يكون من العسير على القادة أن يزرعوا في قلوب أفراد جيشهم حبًّا ورهبةً في آنٍ واحد، ولكن هذا كان يحدث مع الفاتح رحمه الله!
يصف المؤرِّخ التركي المعاصر للفاتح كيڤامي شعور جنود الفاتح تجاهه بقوله: «وصل حاكم العالم وهو يقود الجيش الإسلامي مثل الشمس التي تُنير الأرض، وعندما رآه الجميع عند قلعة شقودرة امْتُلِئت قلوب الجنود المسلمين بالسعادة، بينما ذاب الكفار كأنَّما سُكِبَ عليهم الماء المغلي»[41]!
إذا فهمنا هذا الحب الجارف من الجنود له فإنَّا قد نتعجَّب من انصياعهم الكامل له؛ لأنَّ لُطف القائد مع جنوده، ورقَّته في التعامل مع قضاياهم، قد يدفعهم إلى استضعافه والتمرُّد عليه، ولذا فهذا الحب يحتاج إلى رهبةٍ معه حتى يتحقَّق التوازن، ولقد وجدتُ شرحًا لهذه المعادلة الصعبة عند المؤرِّخ الأميركي چاستين مكارثي إذ قال: «حافظ محمد الثاني على طاعة أتباعه له بحسن معاملتهم عندما يُطيعون، وبعقابهم بشدَّةٍ عندما يُخالفون. عند صعوده للعرش قمع بلا رحمة تمرُّدًا للإنكشاريَّة، وفي الوقت نفسه زاد العطاء بشدَّة لأولئك الذين أطاعوا»[42].
هذا هو التوازن العجيب في حياة الفاتح رحمه الله.
وأخيرًا فإنَّ هذه الشخصيَّة القويَّة لم يكن لها أن تُحقِّق الحبَّ والرهبة دون صفةٍ مهمَّةٍ ينبغي أن تكون بارزةً في حياة الشخص المؤثِّر، خاصَّةً إذا كان حاكمًا، أو قاضيًا، أو سلطانًا مهيمنًا كالسلطان محمد الفاتح، أَلَا وهي صفة «العدل». لقد خصَّ رسولُ الله ﷺ هذه الصفة بالذكر عند حديثه عن الإمام الذي يظله الله يوم القيامة في ظلِّه فقال: «إِمَامٌ عَادِلٌ»[43]، فبغير العدل لن يحدث التأثير في الناس، ولن يتحقَّق الأمن والأمان، ولقد كانت هذه الصفة من أبرز صفات الفاتح رحمه الله، ويعجبني في هذا المضمار أن أنقل فقرةً جميلةً ذكرتها المؤرِّخة الأميركيَّة ليندا دارلينج في كتابها الماتع عن تاريخ العدل الاجتماعي في الشرق الأوسط، فبعد أن ذكرت شرحًا وافيًا للعدل في حياة الفاتح رحمه الله قالت: «قدَّم محمد الثاني إضافات ملموسة في جانب العدل؛ لقد زاد الأمن في البلاد بعد تحويله للدول التابعة إلى وحدةٍ سياسيَّةٍ واقتصاديَّةٍ واحدة. صارت الطرق آمنة، وانتقلت البلدات الموجودة في الأماكن القاصية أعالي الجبال إلى الأودية الغنيَّة بجوار الأنهار والطرق. استصلح السلطان محمد الثاني كثيرًا من الأراضي حول إسطنبول، ونقل إليها السكان والأسرى. نظَّم محمد الثاني الأسعار في الأسواق، وأقام العلاقات التجاريَّة ونظام الضرائب والجمارك بالصورة التي تضع ثروةً أكثر في أيدي أبناء الشعب. أوجد محمد الثاني وكبار رجال دولته المؤسَّسات الخيريَّة في ضواحي المدن، وكان هذا يشمل مطاعم كبرى لإطعام المحتاجين، مع اهتمامٍ خاصٍّ شخصيٍّ له بتوفير الخبز والأدوية»[44].
إنَّ الحديث عن صفات رجل الدولة محمد الفاتح أمرٌ صعب؛ لأنَّ استيعاب المواقف الكثيرة في حياةٍ استمرَّت ثلاثين سنة في حكم الدولة العثمانيَّة أمرٌ لا يتحقَّق في مثل هذه المقالات أو الكتب؛ إنَّما يحتاج إلى موسوعاتٍ متخصِّصة، وجهودٍ متكاتفة، وفِرق عملٍ كبيرة، من العلماء في مجالات: التاريخ، والسياسة، والاجتماع، واللغة، وغير ذلك..
عمومًا ثبت لدينا أنَّ الفاتح لم يكن قائدًا عسكريَّا فذًّا فحسب؛ إنَّما كان «رجل دولة» متمكِّنًا إلى أعلى درجة، ولقد لخَّص المؤرِّخ الأميركي القدير، والمتخصِّص في التاريخ البيزنطي، لوويل كلوكاس Lowell Clucas، هذا الجمع للصفتين بقوله: «السلطان محمد الثاني، ذلك العبقري على المستويين العسكري والسياسي»[45]!
صدق المؤرِّخ الأميركي! [46].
[1] Olsen John Andreas and Gray Colin S The Practice of Strategy: From Alexander the Great to the Present [Book]. - Oxford, UK : Oxford university press., 2011, p. 112.
[2] Setton Kenneth Meyer The Papacy and the Levant, 1204-1571: The fifteenth century [Book]. - [s.l.] : American Philosophical Society, 1976, vol. 2, p. 108.
[3] Gregory Timothy E. A History of Byntizaum [Book]. - west Sussex, UK - Wiley-Blackwell, Malder, M A, USA : Wiley- Blackwell, 2010, p. 391.
[4] Babinger Franz Mehmed the Conqueror and His Time [Book]. - [s.l.] : Princeton University Press, 1978, p. 431.
[5] Cordingly David The Billy Ruffian: The Bellerophon and the Downfall of Napoleon [Book]. - London, UK : Bloomsbury, 2004, p. 254.
[6] Englund Steven Napoleon: A Political Life [Book]. - New York, USA : scribner, 2004, p. 232.
[7] Antov Nikolay The Ottoman Wild West [Book]. - New York, USA : Cambridge University Press, 2017, p. 277.
[8] Thatcher Bruce D. Adamant Aggressors: How to Recognize and Deal with Them [Book]. - [s.l.] : Xlibris Corporation, 2011, p. 13.
[9] Thatcher, 2011, p. 53.
[10] Angold Michael The Fall of Constantinople to the Ottomans: Context and Consequences [Book]. - New York, USA : Routledge, 2014, pp. 4-5.
[11] Roberts Andrew Napoleon: A Life [Book]. - London, UK : Penguin group, 2014, p. 473.
[12] Fuller William C Strategy and Power in Russia 1600-1914 [Book]. - New York, USA : free press, 1992, p. 194.
[13] Overy Richard The Dictators: Hitler's Germany and Stalin's Russia [Book]. - London, UK : Penguin Book, 2005, p. 425.
[14] Overmans Rüdiger Deutsche militärische Verluste im Zweiten Weltkrieg (in Germany) [Book]. - Oldenbourg : Walter de Gruyter, 2000, vol. 46, p. 228.
[15] أورهان صادق جانبولات قوانين الدولة العثمانية وصلتها بالمذهب الحنفي، رسالة دكتوراه، إشراف: عارف خليل أبو عيد - الأردن : كلية الدراسات العليا – الجامعة الأردنية، 2009 صفحة 54.
[16] يلماز أوزتونا تاريخ الدولة العثمانية، المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري. - إستانبول : مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م صفحة 1/180.
[17] Griffiths Ralph and Griffiths George Edward The Monthly Review [Book]. - London, UK : R. Griffiths., 1828, vol. 29, p. 516.
[18] جانبولات، 2009 صفحة 85.
[19] Dostal Walter and Kraus Wolfgang Shattering Tradition: Custom, Law and the Individual in the Muslim Mediterranean [Book]. - New York, USA : I.B.Tauris., 2005, p. 84.
[20] جانبولات، 2009 صفحة 56.
[21] محمد بك فريد تاريخ الدولة العلية العثمانية، المترجمون تحقيق: إحسان حقي. - بيروت، لبنان : دار النفائس، 1981م صفحة 177.
[22] چون باتريك كينروس القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ترجمة وتعليق: د. ناهد إبراهيم دسوقي- الإسكندرية، مصر : منشأة المعارف، 2002م صفحة 122.
[23] ماري ملز باتريك سلاطين بني عثمان- بيروت، لبنان : مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، 1986م صفحة 31.
[24] Kohen Elli History of the Turkish Jews and Sephardim: Memories of a Past Golden Age [Book]. - Lanham, Maryland, USA : University Press of America, 2007, p. 19.
[25] Avigdor Levy Jews, Turks, Ottomans: A Shared History, Fifteenth Through the Twentieth Century [Book]. - New York, USA : Syracuse University Press, 2002, p. 5.
[26] Berktay Halil, Koulouri Christina and Murgescu Bogdan Ottoman Empire [Book]. - Thessaloniki, Greece : Center for Democracy and Reconciliation in Southeast Europe., 2005, p. 78.
[27] Shaw Stanford J The Jews of the Ottoman Empire and the Turkish Republic [Book]. - London, UK : Macmillan press, 1991, pp. 31-32.
[28] Feldman Ruth Tenzer The Fall of Constantinople [Book]. - Minneapolis, MN, USA : Twenty-First Century Books, 2007, p. 113.
[29] Stavrides Theoharis The Sultan of vezirs : the life and times of the Ottoman Grand Vezir Mahmud Pasha Angelovic (1453-1474) [Book]. - Leiden : Brill Academic Publishers, Inc,, 2001, p. 3.
[30] D’Elia Anthony F A Sudden Terror [Book]. - London, UK : Harvard University Press, 2009, p. 13.
[31] McCarthy Justin The Ottoman Turks: An Introductory History to 1923 [Book]. - London, UK : Longman, 1997, p. 73.
[32] McCarthy, 1997, p. 73.
[33] Çizakça Murat Long Term Causes of Decline of the Ottoman/Islamic Economies [Book Section] // Religion and religious institutions in the European economy, 1000-1800 / book auth. Ammannati Francesco. - Firenze, Italy : Firenze University Press, 2012, pp. 361-362.
[34] Brown Roland Wilbur Composition of Scientific Words [Book]. - Washington, D C, USA : Smithsonian Institution Press, 1956, p. 52.
[35] السخاوي: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع - بيروت، لبنان : دار الجيل، 1992م صفحة 10/47.
[36] السيوطي: نظم العقيان في أعيان الأعيان، تحقيق: فيليب حتي- بيروت - لبنان : المكتبة العلمية، 1927م صفحة 173.
[37] الملطي: نيل الأمل في ذيل الدول، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري - بيروت، لبنان : المكتبة العصرية للطباعة والنشر، 2002م صفحة 7/287.
[38] Kane Pandurang Vaman History of Dharmasastra [Book]. - India : Bhandarkar Oriental Research Institute pune, 1968, p. 101.
[39] Holt P. M., Lambton Ann Katherine Swynford and Lewis Bernard The Cambridge History of Islam: A. The central islamic lands from Pre-Islamic Times to the First World Wa [Book]. - [s.l.] : Cambridge University Press., 1977, vol. 2, p. 296.
[40] Downey Kirstin Isabella: The Warrior Queen [Book]. - New York, USA : Anchor Books, 2015, p. 167.
[41] Hosaflook David Marin Barleti: The Siege of Shkodra: Albania's Courageous Stand Against Ottoman Conquest, 1478 [Book]. - Albania : Onufri Publishing House,, 2012, p. 223.
[42] McCarthy, 1997, p. 73.
[43] البخاري: كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب فضل من ترك الفواحش، (6421)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، (1031).
[44] Darling Linda T. A History of Social Justice and Political Power in the Middle East [Book]. - london, UK : Routledge, 2013, p. 133.
[45] Clucas Lowell The Byzantine legacy in Eastern Europe [Book]. - New York, USA : East European Monographs, 1988, p. 107.
[46] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 2/ 846- 864.
التعليقات
إرسال تعليقك